يسرني نقل هذا الموضوع لكم عن الاستاذ:حسين العلق
لتكفير بعضنا.. يا مولانا!
ضمن السجالات الفكرية الحادة عبر مختلف الوسائط الإعلامية يحلو للمتحاورين دائما وصف بعضهم بالإقصاء وأحادية الرأي، يضاف إلى ذلك بطبيعة الحال وصف فريق لأتباع الفريق الآخر، ممن لا يتبعون طريقتهم وفهمهم الخاص للأمور، بكل الصفات اللازمة لتصويرهم في نهاية المطاف، كحد الأدنى، بالانحراف الفكري. يجري ذات السياق على مختلف مستويات الحوار السياسي والثقافي والديني.. الأكثر تفجرا.
لست هنا بصدد تبيان الحكم في صوابية أو خطأ الطروحات الفكرية الجريئة أو المحافظة، كما قد ينتظر البعض، هذه الطروحات التي باتت تشهد على ما يبدو واحدة من فترات السجال "الذهبية" على المستوى المحلي الشيعي في وقتنا الحاضر. أقول لست هنا بوارد عقد محاكمة لأحد، إذ لا يستحق الأمر ذلك، فنحن في المجمل ننظر للسجال القائم باعتباره قفزة نوعية في مستوى الشفافية الفكرية والمكاشفة الضرورية، غير أن ما يهمني هنا هو مراقبة ما يجري من تداعيات لهذا الحوار، وإرهاصات بدأت تبرز ملامحها وإن بشكل خافت هنا أو هناك، وأعني بها تلك النظرة التنميطية لأصحاب الرأي المختلف، والتي تبتغي محاصرة تلك الآراء عبر أسوأ الأساليب التي تجنح إلى نعت أصحاب الرأي المغاير بمختلف النعوت المؤدية في المحصلة النهائية، عمدا أو سهوا، لإخراج هؤلاء من ربقة الدين!
لقد انتفض الكثير من المثقفين السعوديين عبر بيان صدر مؤخرا احتجاجا على الفتوى التكفييرية الصادرة عن الشيخ السلفي عبد الرحمن البراك ضد الكاتبين عبد الله بن بجاد ويوسف أبالخيل، والتي ليس لها من ترجمة واضحة إلا أنها دعوة للتصفية الجسدية لهذين الكاتبين عقابا لهما على آرائهما. في المنظور الشخصي نجد بأن هذه الفتوى التكفيرية وأمثالها التي طالت على مدى سنوات مديدة أفرادا وأقواما ومذاهب مختلفة، نجدها على نحو أو آخر محصلة لسجالات بدأت بأبعاد فكرية محضة تحتمل الف باب وباب من الأخذ والرد والنقاشات المعمقة من مختلف الأطراف والأطياف، اللهم إلا اذا انبرى من يجرها إلى مربع التجريم الديني وفقا لأضيق زوايا الفهم الخاص والمنغلق، ليبدأ بعدها سيل النعوت البذيئة واتهام النوايا وصولا لإصدار صكوك "الكفران".
أقول ما سبق وأمامي نصوصا مختلفة لبعض أخواننا الكتاب والمعلقين من ساحتنا المحلية، والتي سطروها على هامش السجالات القائمة حول المرأة والحرية والتجديد الديني والتحرك السياسي، وهي نصوص مسيئة وقاسية إلى حد إطلاق ألفاظ لا تحمل مفهوما آخر سوى التكفير وإخراج المختلف معنا عن الدين والملة والصراط المستقيم!.
الغريب أنه وعلى مدى ثلاثة عقود وقع الشيعة باستمرار ضحية لموجة تكفيرية سلفية مركزة كانت تبرر هجموها واساءتها المستمرة للمختلفين بالاحتساب قربة لله! والدفاع عن الشريعة السمحاء من تحريفات أصحاب البدع، لكن المفارقة الغريبة هو أن يبرز من بين الشيعة أنفسهم من يمارس ذات السلوك -باختلاف المصطلحات- مع أقرانه وبني جلدته تحت ذات المبرر إياه! وربما باستنساخ ذات الحجج وعبر ممارسة ذات الآليات التسقيطية التي تجعل من شخصية الآخر محلا للطعن بأبشع ما يكون. وغني عن القول بأن النزول إلى هذا المستوى من الممارسة الوضيعة في التعاطي مع مسائل الاختلاف والنيل من شخصيات الآخرين، لا يكشف إلا عن مدى إفلاس المهاجمين وافتقادهم لأي آلية تحاور المنطق بمنطق مقابل.
والأخطر من ذلك أن تنسحب حالة التجريم تلك والقائمة أصلا على مقدمات فاسدة، على مجمل حركة أصحاب الرأي الآخر، في تعميم خاطئ ومخل ربما شمل تيارات أو فئات عريضة من الناس، لتضع الجميع في سلة واحدة سمتها الأساس التشكيك المرضي -من المرض- المنسحب على كل المجالات التي يمكن أن يلامسها هؤلاء ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.
ومن المؤسف حقا أن نجد في ساحتنا من يحول أتفه المسائل الخلافية، وبعضها بالغ القشرية حد السخف، إلى مسألة مصيرية تعد مقاربتها زعزعة لأركان الدين ومساسا بشريعة سيد المرسلين! بما ينسحب تلقائيا إلى مستوى اختلاق نظرة اجتماعية متعالية ضد المخالفين، عمادها ازدراء الآخرين لاعتبارات لا تمت للدين والأخلاق بصلة.. وإن تجلبب مطلقوها بلباس الدين أحيانا!
والأسوأ من هؤلاء هم أصحاب نظرية المؤامرة الذي وفروا على أنفسهم عناء التفكير تماما، وذلك بالركون إلى تفسير واحد لمجمل الحراك القائم في مجتمعنا، وملخصه أن هناك "مخططا مدروسا واجندة سرية" تقف خلف مجمل الطروحات والتحركات مهما بلغت عفويتها وعدم ترابطها أو توافقها حتى. ومن أسف أقول بأن نزعة من هذا القبيل تسربت شيئا فشيئا الى من يفترض أنهم أكبر من أن يركنوا إلى تفسيرات البسطاء والسذج في التعاطي مع وقائع الأمور.
أظن أننا بإزاء انفتاح اجتماعي متنام وصدام فكري إيجابي وحراك ثقافي نشط وطروحات دينية متجددة، نحن في القلب منها شئنا أم أبينا، ويبقى الامتحان الحقيقي هو في شكل التعاطي مع مجمل هذا الحراك. ويبدو لي بأن لا خيار أمامنا سوى إبداء قدر من العقلانية والمرونة بالتوازي مع إرادة لا تتردد في ملامسة مواطن الخلل بشجاعة مهما أسبغت عليها الأعراف قدسية وهمية، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الزمكانية المحيطة بمجتمعنا، وإدراك حجم التحدي الحضاري الذي يواجه الأمة، علّ ذلك يخرجنا من قمقم الانغلاق إلى فسحة الانفتاح المتزن.
أقول ذلك محذرا من إعادة انتاج تجارب غيرنا سيئة الصيت، والتي قادتهم إلى مستنقع التكفير، عبر ممارسة الإقصاء وإلقاء التهم جزافا والاستعاضة عن الاختلاف الفكري بالاستهداف والتجريح الشخصي، وقذف الآخرين بمختلف الأوصاف والتلميحات المكشوفة التي تستبطن التكفير ولربما كانت أبلغ من التصريح أحيانا، والتي انتهت بأصحابها إلى وضع مأزوم وطريق مسدود بعد أن داستها حتى أقدام عرّابيها، ومشكلتها ببساطة أنها وقفت حجر عثرة بوجه المسيرة الطبيعية لتطور المجتمعات المتجهة إلى تبني ثقافة تتسع لجميع الأطياف الدينية والفكرية، وتستوعب مجمل الطروحات والآراء والمبادرات دون وصاية أو مصادرة ودون ادعاء أجوف بإمتلاك مفاتيح الحقيقة المطلقة، فدعونا نبتعد عن آفة التكفير والتحقير ولا مشكلة بعدها في أن تختلف آراؤنا إلى أقصى المديات.
مع تحيات :عباس كلمته ما تنداس
[img][/img]